دوماً نحتاج لدعاء جميل ورقيق إليكم ذلك
“كلمات الله التامات” .. نور القلوب، وبهجة الأيام، وسر السعادة، ومفتاح الهداية، من تعلق بها
أدرك سبل النجاة، ومن استرشد ببركتها لم تلحقه خيبة أبدا، فأكرم بها نعمة من نعم
الله تعالى علينا التي لا تعد ولا تحصى.
وكلمات الله التامات: أي التي لا يعتريها نقص، إذ يتنزه سبحانه أن يكون شيء في
كلامه ناقصا أو خللا أو عيبا، كما يكون في كلام البشر. وقيل: معنى التمام: أن
ينتفع بها المتعوذ، وتحفظه من الآفات. قال النووي: “قيل معناه: الكاملات التي لا يدخل فيها
نقص
ولا عيب، وقيل: النافعة الشافية، وقيل: المراد بالكلمات هنا القرآن، والله أعلم”.
وقال التوربشتي وصفها بالتمام لخلوها عن العوائق والعوارض فإن الناس متفاوتون في كلامهم واللهجة وأساليب
القول، فما منهم من أحد إلا وفوقه آخر في معنى أو معان كثيرة، ثم إن
أحدهم قلما يسلم من معارضة أو خطأ أو سهو أو عجز عن المراد، وأعظم
النقائص المقترنة بها أنها كلمات مخلوقة تكلم بها مخلوق مفتقر إلى أدوات ومخارج، وهذه نقيصة
لا ينفك عنها كلام مخلوق، وكلمات الله تعالى متعالية عن هذه القوادح فهي التي لا
يتبعها نقص ولا يعتريها اختلال.
وكلمات الله التامات اشتملت على العدل والصدق، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً}
[الأنعام:115].
الكلمات الكونية:
كلمات الله التامات إما أن تكون (كلمات كونية قدرية)، وإما (كلمات شرعية) .. أما الكونية
فهي الكلمات التي يدبر بها الله تعالى أمر الخلائق والتي ذكرها عز وجل في قوله:
{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل:40] فيحمي الله تعالى
المؤمن بكلماته الكونية ويدفع عنه ما يضره.
سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَنْبَشٍ كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ
كَادَتْهُ الشَّيَاطِينُ؟ قَالَ: “جَاءَتْ الشَّيَاطِينُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَوْدِيَةِ وَتَحَدَّرَتْ
عَلَيْهِ مِنْ الْجِبَالِ وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ مَعَهُ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ يُرِيدُ أَنْ يُحْرِقَ بِهَا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَرُعِبَ -قَالَ جَعْفَرٌ: أَحْسَبُهُ قَالَ: جَعَلَ يَتَأَخَّرُ- قَالَ: وَجَاءَ
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ. قَالَ: «مَا أَقُولُ؟» قَالَ: «قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ
التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ
مَا يَنْزِلُ مِنْ
السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْ شَرِّ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ
يَا رَحْمَنُ». فَطَفِئَتْ نَارُ الشَّيَاطِينِ، وَهَزَمَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَل”. (أحمد والطبرانى، صحيح الجامع74).
فالكلمات الكونية هي التي يكون الله تعالى بها الأشياء ويقدرها، فهي التي لا يجاوزها بر
ولا فاجر. أما كلماته الدينية الشرعية فإن الفجار يتجاوزونها، يعني: يعصون أوامره، ويرتكبون نواهيه، بخلاف
الكلمات الكونية فإنه لا أحد يستطيع أن يتعداها، فالكون كله
يسير على وفق تقديره وتكونيه جل وعلا، والعباد كلهم مسخرون تجري عليهم أقداره وقهره، ولا
أحد يستطيع أن يخالف قدر الله جل وعلا وتكوينه. جاء في كتاب الجواب الصحيح لمن
بدل دين المسيح لابن تيمية: “والكلِمَاتُ الكونِيَّةُ، مِثْلُ قَولِ النَّبيِّ -صلى الله
عليه وسلم-: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ، الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ، وَلَا فَاجِرٌ»”. ويقول: “وَمن الْمَعْلُوم
أَن هَذَا هُوَ الكوني الَّذِي لَا يخرج مِنْهُ شَيْء عَن مَشِيئَته وتكوينه”.
قال ابن القيم: “وقوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن
بر ولا فاجر من شر ما خلق» فهذه كلماته الكونية التي يخلق بها ويكون، ولو
كانت الكلمات الدينية هي التي يأمر بها وينهى لكانت مما يجاوزهن الفجار والكفار”.
وعن خولة بنت حكيم السلمية -رضي الله عنها- أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يقول: «إذا نزل أحدكم منزلا فليقل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق،
فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه» (رواه مسلم)
قال فضيلة الشيخ صالح آل الشيخ: المقصود بـ «كلمات الله التامات» هنا الكلمات الكونية التي
لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وهي المقصودة بقوله جل وعلا: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا
لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] وبقوله: {وَلَوْ
أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ
اللَّهِ} [لقمان: 27]
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يضرّه شيء» : أي من المخلوقات؛ لأن الأدوية الإلهية
تمنع من الداء بعد حصوله وتمنع من وقوعه وإن وقع لم يضر. و(شئ) نكرة فتعم،
ودخل فيه سائر المضرات من الداخل وهو النفس والهوى، ومن الخارج وهو الشيطان
وغيره من المؤذيات.
ولقد كان في الجاهلية إذا سافر الرجل، وصار بأرض قفر، وخاف على نفسه من الجن،
يقول: أعوذ بسيد هذا الوادي، فيبيت آمناً في جواره. يعني: الجني المشرك، أو المسيطر على
هذا الوادي، فيقول الجن: قد سدنا الجن والإنس، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ
رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] أي شركاً وكفرا.
وأخرج النسائي في عمل اليوم والليلة (562) مرسلا .. عن سليمان بن يسار وبسر بن
سعيد. قالا: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: لدغتني عقرب. فقال
له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أما لو أن قلت حين أمسيت: أعوذ
بكلمات الله التامة من شر ما خلق لم يضرك».
قال المناوي: ويحصل ذلك لكل داع بقلب حاضر وتوجه تام ولا يختص بمجاب الدعوة. وقال
القرطبي: هذا خبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلا وتجربة، فإني مذ سمعت هذا الخبر
عملت عليه فلم يضرني شيء إلى أن تركته، فلدغتني عقرب ليلا، فتفكرت
في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات .
قال الزرقاني: (فإنه لا يضره شيء من المخلوقات حتى يرتحل منه): وشرط نفع ذلك الحضور
والنية وهي استحضار أنه صلى الله عليه وسلم أرشده إلى التحصن بالله، وأنه الصادق المصدوق،
فلو قاله أحد واتفق أنه ضره شيء فلأنه لم يقله بنية وقوة يقين،
وليس ذلك خاصا بمنازل السفر بل عام في كل موضع جلس فيه أو نام، وكذلك
لو قالها عند خروجه للسفر أو عند نزوله للقتال.
نعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرا وبر